"عقارب الزمن لن تعود إلى الوراء".. هذا هو القول الذي يجري تكراره على ألسنة كل رموز الانقلاب هذه الأيام، وكأنه مقرر دراسي عليهم!.
يقولونه
في مواجهة المبادرات التي تطلق، لتسوية الأوضاع السياسية المرتبكة بفضل
الانقلاب على الشرعية، وإسقاط حكم الرئيس المنتخب في مصر..
ويقولونه
لطمأنة الذين خرجوا يدعمون صنيعهم، حتى لا يصابوا بالإحباط، وهم الذين
يدعونهم بين الفنية والفنية لتعزيز شرعيتهم التي هي على جرف هار، مخافة أن
يدفعهم اليأس والقنوط لعدم الاستجابة لمطالبهم، بالتظاهر، بعد أن صارت
السلطة في مصر الآن هي التي تدعو للتظاهر تأييداً لها، وهو أمر شاهدناه في
حكم القذافي، حيث كان هو من يقود هذه المظاهرات، وكان رأيه أنه زعيم
جماهيري وليس حاكماً، لكن الحكام عندنا هم من يدعون للتظاهر، على النحو
الذي شاهدنا!.
الدعوة
كانت لكي تأمر الجماهير القيادة بأن تواجه "الإرهاب"، مع أن مواجهة
"الإرهاب" هي دور السلطة الحاكمة، لا تحتاج أن يأمرها به أحد أو يكلفها به
متظاهر، لكن كنا نعلم أن ما جرى هو لتأكيد شرعية من انقلبوا بعد أن تآكلت
شرعيتهم التي تجلت يوم 30 يونيو، يوم الثورة المضادة على ثورة 25 يناير.
المبادرات
التي تُطرح تقبل بالدنية، فلا تصر على عودة الرئيس المنتخب في واحدة من
أنزه الانتخابات التي عرفها عالمنا العربي، لكن ما تقول به هذه المبادرات
هو عودة شكلية للرئيس، حيث يتخلى عن شرعيته لرئيس وزراء توافقي، ثم تكون
الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، لكن الذين اغتصبوا السلطة في البلاد،
ردوا على كل هذه المبادرات بأن "عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء".
"الوراء"
المقصود هنا هو عودة الرئيس الشرعي بأي قدر، وبأي شكل، فهو "الوراء" الذي
لن يعودوا إليه بعد أن مشوا خطوات في اتجاه "خريطة المستقبل"، التي تصر
حركة "تمرد" على أنها من وضعتها بالنص، لتؤكد على أن ما جرى يوم 30 يونيو
كان ثورة شعبية، دعت هي إليها، في حين أنه ومنذ إعلان مهلة الـ "48 ساعة"،
أعلن صاحب الإعلان والمهلة الفريق السيسي أن لديهم "خريطة للمستقبل".
"حركة
تمرد" تكلف نفسها من البلاء ما لا تطيق، عندما ينسب إليها كل هذه السياسات
التي تمثل انقلاباً على ثورة شاركنا بعضهم فيها، وأعني بذلك ثورة 25 يناير
المجيدة، وقد توج القوم انقلابهم بإعلان وزير الداخلية عن عودة جهاز أمن
الدولة على النحو الذي كان عليه، وهو الجهاز الذي أسقطته الثورة، فضلا عن
تحملهم وزر هذه الحكومة التي تنتمي في الشكل وفي الموضوع إلى حكومات حسني
مبارك.
أعضاء
"تمرد" ليسوا أكثر من شباب جرى التغرير به، وفي ساعة الجد لم يستطيعوا أن
يفرضوا مرشحهم المختار لموقع رئيس الحكومة، وفق خريطة طريقهم، وهو الدكتور
محمد البرادعي بعد أن جرى تصوير أن "حزب النور" هو من الخمسة الكبار في
مجلس الأمن الذين يملكون حق الفيتو، وعليه فلما اعترض على هذا الترشيح قيل
له سمعاً وطاعة، مع أن "النور" خرج من خريطة المستقبل بعد مذبحة الحرس
الجمهوري، وقبل اختيار رئيس الحكومة ومع هذا ظل البرادعي مستبعداً.
المتابع
للمشهد المصري منذ الثورة المجيدة، سيعلم أن من رفضوا البرادعي كانوا قادة
الانقلاب، ومن بيدهم "عقدة النكاح"، وهناك حالة من عدم الاستلطاف تحكم
العلاقة بينهم، فلم يكن المجلس العسكري الحاكم في مرحلة ما بعد مبارك يدعوه
للاجتماعات التي كان يتم توجيه الدعوة إليها للجميع بمن فيهم أناس على
هامش الحياة السياسية.
ما
علينا، فأولو الأمر منا يحرصون على التأكيد قبل الأكل وبعده، على "أن
عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء"، وباعتبار أن الرئيس المنتخب محمد مرسي
هو هذا "الوراء"، مع أن المدقق في المشهد سيقف على أنهم هم "الوراء" بشحمه
ولحمه.
فقد
جاؤوا عبر انقلاب عسكري، ومرحلة الانقلابات العسكرية هي "الوراء" التي
عرفتها مرحلة الخمسينيات، فكانت سبباً في هذه الانتكاسات التي نعيشها، ولم
يكذب الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، في رده علي دعوة "القوى
الفاشلة" في مصر بالانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب، لفقدانهم
الجماهيرية اللازمة لإسقاطه عبر صناديق الاقتراع، كما يحدث في النظم
الديمقراطية.
لقد
قال الفريق السيسي إن تدخل الجيش سيعيد البلاد إلى ثلاثين عاماً إلى
الوراء، لكن الذي حدث أنه أريد لهذا الانقلاب أن يجري تسويقه على أنه ثورة
شعبية، وسعوا لإدخال الغش والتدليس على المجتمع الدولي، ولا أظن أن أحداً
في الغرب بات على قناعة بأن ما حدث لم يكن انقلاباً عسكرياً.
"الوراء"
هو الذي مثل استراتيجية للقوم منذ اللحظة الأولى، وهذا ليس غريباً على
مجموعة انقلابية سلمت نفسها لمن يمثل الماضي السحيق، وهو الكاتب المخضرم
محمد حسنين هيكل، فهو الذي رسم لهم سيناريو الانقلاب، وهو الذي صاغ بيانات
الفتنة، التي استمعنا لها فوجدناها حمالة أوجه، لا تعرف لها وجهاً من ظهر،
ولا قلبة من عدلة، فقد كان جمال العبارة غالباً على دقة الهدف.
لقد
صور لهم هذا "الوراء" أن "نزع الفيشية" سيغيب الصورة الأخرى، والرأي
الآخر، ومظاهرات الرافضين للانقلاب والمنحازين للشرعية.. و"الفيشة"، هي تلك
التي يجري إدخالها في مصدر الكهرباء.
"الوراء"
صور لهم أن تسويد الشاشات الموالية للرئيس المنتخب، سيعود بنا من زمن
السماوات المفتوحة، إلى عهد "الراديو الترانزستور" الذي كان يعمل بضربه
بقالب طوب، وقد ظل العالم كله ضحية ليوم وبعض يوم لصورة واحدة كان ينقلها
إعلام "الثورة المضادة".. الذي كان ضد ثورة 25 يناير منذ اليوم الأول، لكن
الذي حدث بعد هذا أن عدداً من الفضائيات استطاعت أن تتقلب على هذه الآليات
القديمة في التعتيم والتشويش فنقلت المشهد الحقيقي للعالم، ولم تكد تمر سوى
أيام على هذا الانقلاب حتى وقف العالم كله على طبيعته.
لقد
كان التنكيل بالإعلاميين، وعودة "زوار الفجر"، وانتهاك حرمة البيوت هو جزء
من هذا "الوراء"، وشاهدنا كيف تم اتهام مدير مكتب "الجزيرة" بالقاهرة
بتكدير السلم العام، وهي تهمة مضحكة، كما جرى اتهام مصور "الجزيرة مباشر
مصر" بتهمة فظيعة وشنيعة وهي "حيازة كاميرا"، وهي تهمة تنتمي إلى عهد ما
قبل الثورة المعلوماتية، فالآن الجميع يمكن توجيه نفس الاتهام إليه،
فالهواتف النقالة، بها كاميرات، وليس منطقاً أن يظل بين ظهرانينا من يسوي
بين حيازة كاميرا، وحيازة المخدرات!.
لقد
تفتح وعي جيلي على صحافة الأحزاب في مصر، بجانب الصحف القومية، بعد الحرية
النسبية التي سمح بها حكم الرئيس السادات، وعندما كنا نقرأ لكتاب عن مرحلة
الخمسينيات، عندما جرى تأميم الصحف، وفرض الرقابة عليها، كنا نندهش لقولهم
إن الصحافة كانت تصدر بعناوين واحدة، والصفحات الأولى تشعر أنها من إنتاج
جهة هي التي تقوم على تحريرها وإخراجها.. فمثل هذا عودة بنا إلى "الوراء"
لنرى ما لم نعاصره صوتاً وصورة.
والذي
زاد وغطى هو ما شاهدناه وسمعنا به من اقتحام الاستوديوهات للقبض على من
فيها بدون اتهام، وبدون طلب من جهات التحقيق، ولم يسلم الضيوف مما حدث..
وهذا النوع من الممارسات البوليسية له علاقة وثيقة بـ "الوراء"، ثم علمنا
كيف أنهم ذهبوا لاعتقال حازم صلاح أبو إسماعيل فوجدوا شقيقه فاعتقلوه معه،
وكيف ذهبوا لاعتقال عصام العريان فلم يجدوه في المنزل فأخذوا نجله رهينة،
وهي ممارسات تنتمي إلى "الوراء" وهي فترات سابقة من عهد مصر، يسعى
الإنقلابيون لإعادتنا إليها بالقوة الجبرية.
إن
احترام إرادة الجماهير الممثلة في صناديق الاقتراع هو سلوك ينتمي للحاضر
والمستقبل، أما من يريدون أن يفرضوا إرادتهم بالقهر والقمع والاستبداد فهم
الماضي السحيق، وهم "الوراء" حيث عهد ما قبل ثورة يناير، عندما كان مبارك
يحكم بالحديد والنار، فاتهم أن عقارب الساعة لن تعود للوراء.
ويا أيها الإنقلابيون: "أنتم الوراء"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق